الجمعة، 12 أكتوبر 2018

عصر الحمامة

دليلة سني سليطين


    كان يا مكان ، في قديم الزمان، زمن  لم يكن العالم بعد قد حقق التطور العلمي و التكنولوجي الذي نعيش تحت ظله الآن، كان يستوطن الأرض أناس بسطاء ، يعيشون حياة واقعية ، يحسون بأحاسيس صادقة ، يشعرون بكل دقيقة و ثانية تمر من أعمارهم ، أناس يشبهوننا، ينامون و يأكلون مثلما نفعل الآن ، سوى أن الفرق بيننا و بينهم ، هو أنهم عاشوا الحياة بكل تفاصيلها ، أحسوا بكل حدث مر في تاريخهم و حفروه داخل أعماق الذاكرة الإنسانية ، لا داخل ذاكرة إلكترونية خولنا لها فرصة التحكم في حياة كل واحد منا ، حتى جردتها من كل المعاني و الأحاسيس التي تضفي على عمر كل واحد فينا جمالا و رونقا و هدفا و معنى..

    كان الناس يستمتعون بكل لحظة من حياتهم بالعين المجردة ، و الحضور الجسدي و النفسي المطلق ، لم تكن هناك أجهزة تلهييهم عن التأمل و التفكر ، كانوا يلتقطون الصور بأعينهم و قلوبهم، و يعيشون اللحظة بأدق تفاصيلها دون أن يحتاجوا لكاميرا أو جهاز يعيش بدلهم !
    كان الحب في ذلك العصر إحساسا مقدسا و رائعا بكل معنى الكلمة ، كان كل محب و محبوب عبارة عن شاعر أو كاتب يسرد هوى قلبه بالكتابة على الورق ، و يعبر عن ولعه و النار التي تحرق قلبه بمداد حبر يسيل ليطفأ وهج و شوق الحب ، كانت تكتب آلاف الرسائل من طرف الأحبة ، و التي تربط برجل حمامة بيضاء لتعمل عمل مرسول العشق و توصلها للمحبوب الذي ينتظر بأحر من الجمر وصول رسالة حبيبه الذي اشتاق إليه ..!

     كان كل شيئ حقيقيا صادقا، الخضر و الفواكه طرية و طبيعية ،  الطعام صحي و لذيذ، الأزقة نظيفة ، الهواء نقي ، القلوب صافية و بسيطة ، الوقت فيه البركة ، كل شيئ كان سهلا جميلا بسيطا يعطي للحياة معنى آخر !
   فللأسف ، فرغم ما نعيشه الآن من تطور تفتخر به البشرية في جميع المجالات،  رغم أن التكنولوجيا الآن استطاعت أن تقرب المسافات ، و تسهل التواصل و التنقل ،  إلا أنها جردت الحياة من أجمل تفاصيلها  و معانيها العميقة ، أصبحنا نحس بأننا نعيش داخل دوامة صعب إيجاد باب للهروب منها ، غدت الحياة بمشاكلها و ضغطها تتحكم فينا كما تحب ،  فرغم التطور الكبير الذي شهدته البشرية لتسهيل العيش و ربح المال ، إلا أنها و في خضد هذا التغيير الفاقع، نسيت كيف تعيش و تستمته بكل لحظة تهديها لها الحياة.. 

    الكل أصبح مشغولا ، الكل يجري و لا يملك الوقت حتى للتبسم ، الكل مكتئب و يلعن حياته و عمله و ظروفه، لا أحد راض عن نفسه ، أصبح الأطفال يرغمون على عيش عمر أكبر من طاقتهم ، الحب أصبح كلمة متداولة يتم نقلها في أجهزة التواصل و هي مجردة من جميع معانيها ، لا أحد يرى أحدا ، الكل يفضل الاتصال و كتابة رسالة قصيرة لا تشفي الغليل أبدا ..
    اختفت الرسائل التي كانت تحمل أثار دموع الحبيب و رائحته ، اختفت البركة في الوقت حتى أصبح يمر سريعا لا نحس به ، اختفت صلة الرحم و زيارة الأصحاب ، إذ تم الاكتفاء بخطوط نصية يتم نشرها من جهاز لجهاز لا يتكبد الناس حتى عناء قراءتها كما يجب ، الصحة أصبحت تتدهور ، الأمراض تنتشر ، أمد الحياة يقل ، الصحة النفسية للشباب تتدمر ، لم يعد للحياة معنى أبدا !
     انقرض عصر الحمامة الجميل ، حيث كان الكل في سلم و سلام ، حيث كانت الكلمة ذي معنى ، حيث كانت القلوب صادقة لم تدنسها بعد أيادي التكنولوجيا البئيسة ، و التي بقدر ما قربت المسافات ، إلا أنها أبعدت القلوب و جردت الحياة  من أروع معانيها ..

  فهل يمكن يوما أن نجد حلا يوازن بين ما تقدمه لنا التكنولوجيا من فوائد لا يمكن إنكارها ، و في نفس الوقت يضع لها حدا في السيطرة على حياة الناس و إفراغها من كل ما هو عميق و بسيط و صادق...
  

***********************


***********************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة