إعداد / محمــــد الدكـــــرورى
نكمل الجزء الثالث ومع الخليفه يزيد بن عبد الملك بن مروان، ويبدو جليًّا أن الخليفة يزيد لم يكن يملك الرؤية البعيدة، ولم يعمل وفق استراتيجية مرسومة فى خلافته، كما يظهر أنه لم يُحِط بظروف دولته بعد حركة الفتوح الكبرى التي تمت في عهد أسلافه، وأهمية استيعاب الدولة للمتغيرات التي تعيشها من جَرَّاء دخول أجناس ومذاهب مختلفة متباينة، وكان على الدولة صهرها في جسم الأمة ونشر الدين الإسلامي بينه، وهذا ما لمسه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وسعى إليه، إلا أن الخليفة يزيد لم يدرك ذلك فعاد إلى سياسة من سبق وهو أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ومن خلفاء بني أمية وذلك عن طريق العودة إلى تنشيط حركة الفتوح وضرب المعارضة بكل قوة.
وإهمال الإصلاح الداخلي وعدم الاهتمام بصهر القوى الجديدة في أمة الإسلام وتطبيق الإحكام الإسلامية عليهم، وللحق فإن سياسة يزيد وحده لم تكن وراء الوهن الذي أصاب دولة بني أمية، ولكنه بعدم إدراكه ما تحتاجه الدولة في تلك المرحلة من إصلاح، وما تعيشه من متغيرات، وقد استمر في سياسة أسلافه قبل عمر، وأدار ظهره للكثير ما صنعه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، فاستمر الوهن في عهده، وجرت بعض سياساته بالدولة نحو هاوية الانهيار، وإن كان هذا الوهن والتدهور لم يظهر جليًّا في زمنه بل استطاع الإبقاء على حدود دولته مصونة وكيانها مهابًا، فظل ينخر في جسم الدولة متواريًا، حتى ظهر ذلك متأخرًا فيما بعد.
وقد حدثت في عهد يزيد بن عبد الملك مجموعة من الثورات، وقد كان لكل منها ظروفها الخاصة، وأسبابها المختلفة عن الأخرى، ولكن بعضها كاد أن يُذهب بوحدة الأمة في عهد الخلافة الأموية، فمن هذه الثورات، هى ثورة يزيد بن المهلب، وهو عندما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة خرج عليه يزيد بن المهلب، وخلع بيعته واستولى على البصرة، فجهز يزيد بن عبد الملك لقتاله جيشًا بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، فجمع يزيد بن المهلب جموعًا كبيرة، والتقى الطرفان بالعقر من أرض بابل، ودارت بينهما معركة رهيبة دامت ثمانية أيام قُتِل فيها يزيد بن المهلب، وعدد من إخوته، وخلق كبير من جيشه، وتفرق سائر جيشه وأهل بيته فلُوحِقوا وقُتِلُوا بكل مكان وكان ذلك سنة مائه واثنين من الهجره.
وكان هناك أيضا حركات الخوارج، مثل حركة شوذب، وهى بعد ما إن تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة حتى تجددت حركة شوذب الخارجي، وتم القضاء عليه وعلى أصحابه على يد مسلمة بن عبد الملك أثناء سيره للقضاء على حركة بن المهلب، فإنه لما دخل الكوفة شكا إليه أهلها شوذب وخوفهم منه، فجهز جيشًا من عشرة آلاف جعل قيادته لسعيد بن عمرو الحرشي، ووجهه إليهم فدارت سنة مائه وواحد من الهجره، هذه الوقعة، وتم القضاء على شوذب وكل أصحابه، وكذلك حركة مسعود العبدي في البحرين واليمامة، وقد تم القضاء عليها على يد سفيان بن عمرو العقيلي أمير اليمامة، وكان القضاء عليها في أواخر عهد يزيد على قول البعض.
وهناك من يرى أن الحركة في عهد يزيد كانت على يد أخ مسعود العبدي، وكان هناك أيضا حركة مصعب الوالبي، وقد خرج مصعب الوالبي بالكوفة، وتم القضاء عليه في عهد يزيد بن عبد الملك بواسطة عامله ابن هبيرة، وكان هناك أيضا حركة عقفان، وقد خرج عقفان الحروري على يزيد بن عبد الملك بناحية دمشق وكان عدد أصحابه ثمانين رجلاً من الخوارج وعندما أراد يزيد القضاء عليه عسكريًّا، أُشِير عليه أن يبعث إلى كل رجل من أصحاب عقفان رجلاً من قومه يرده عن رأي الخوارج، على أن يؤمنهم الخليفة، فقد قالوا للخليفة: إن قُتِل هؤلاء بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، فوافقهم الخليفة على رأيهم، وسار إليهم أهلوهم وقالوا لهم: إنا نخاف أن نؤخذ بك.
وقد أَمَّنوهم فرجعوا عن رأيهم وانفضوا من حول زعيمهم عقفان، فبقي وحده فأرسل إليه يزيد أخاه فاستعفه وأمَّنه، فردَّه وقد ترك رأي الخوارج، بل إنه خدم الدولة فتولى زمن هشام أمر العصاة، ثم استعمل على الصدقة حتى توفي هشام، وكانت هناك أيضا حركة شريم اليهودي، وهو يهودي سوري أعلن أنه المسيح المنتظر والمنقذ لليهود، وسير حملة لانتزاع فلسطين من المسلمين، فغادر يهود بابل وأسبانيا موطنهم ليشتركوا في هذه المغامرة، إلا أن القائم بها أُسِر، وعرضه الخليفة يزيد بن عبد الملك على الناس على أنه مهرج دجال، ثم أمر به فقُتل، ويتضح لنا أن خلافة يزيد بن عبد الملك كانت نموذجًا صريحًا للخليفة العادي، الذي اتضح الفارق بينه وبين سابقه عمر بن عبد العزيز.
وكان ذلك الأمر الذي جعله في نظر الجميع خليفة لا يرقى إلى مستوى الخلافة وأهليتها، وهذا يزيد الذى قال عند توليه الخلافه : والله ما عمر بن عبد العزيز بأحوج إلى الله مني ، فأقام أربعين يوما يسير بسيرته ، فتلطفت حبابة جاريته وغنته أبياتا ، فقال للخادم : ويحك، قل لصاحب الشرط يصلي بالناس، وقيل أن حبابه هي التي أحب يوما الخلوة معها، فحذفها بعنبة، وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت، فماتت، وبقيت عنده حتى أروحت، أى أصبحب جيفه لها ريحه كريهه، واغتم لها ثم زار قبرها وقال : فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد، ثم قال: من اجلك هذا هامة اليوم أو غد، ثم رجع يزيد من زيارة قبرها، فما خرج إلا على النعش.
وقيل أنه عاش بعدها خمسة عشر يوما، وقد قيل عن حبابه أنها كانت بديعة الحسن، ومجيدة للغناء ، وقد لامه وعاتبه أخوه مسلمة من شغفه بها، وتركه مصالح المسلمين، فما أفاد، وقيل عن يزيد أنه كان لا يصلح للإمامة، مصروف الهمة إلى اللهو والغواني، وقيل أنه مشى مع جارية في قصوره بعد موت حبابة، وهى سلامة القس، وهى جارية الخليفة يزيد بن عبد الملك، والتى شغف بها عبد الرحمن الجشمي، الملقب بالقس، لكثرة عبادته، وكان تابعياً، فنسبت إليه، وقد اشتراها يزيد بن عبد الملك ثلاثة آلاف دينار، فانتقلت إلى بلاطه، وكان يفضل عليها حبابة، وكان لها شعر في رثاء يزيد وقد أدركت أيام ابنه الوليد، وتوفيت بدمشق.
وكان عندما حزن يزيد على موت محبوبته حبابه فقالت له جاريته كفى حزنا بالواله الصب أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرا، فصاح ، وخر مغشيا عليه، ومات بعد أيام، وتتلخص قصة حبابة حسب معظم الروايات، أنه كان للخليفة قصر في إربد كان ينزله متى أراد، وكان يستخدمه للهو والسرور والاستراحة في رحلات الصيد التي كان يقوم بها في الصحراء الأردنية، وفي إحدى المرات قام برحلة تنزه إلى بيت راس وأخذ يلهو هناك مع جاريته حبابه ويأكلان الرمان والعنب، حتى شرقت هذه الجارية بحبّة عنب فلفظت أنفاسها بين يديه، فجنَ جنونه على موتها بهذه الصورة المفجعة، فأبقاها ثلاث ليال وهو يشمها ويقبّلها، ويذرف الدمع على فراقها.
حتى عاب عليه أقاربه وحاشيته ما يصنع، فأذن لهم بغسلها ودفنها في ثرى بيت رأس، وأما الخليفة يزيد فقد رجع إلى قصره في إربد، ومكث بعدها أربعين يوما، ثم لفظ أنفاسه حزنا عليها، وقيل أنه دُفن حيث مات في إربد، والأرجح أنه نقل على أكتاف الرجال إلى دمشق ليوارى هناك في حدود سنة مائه وخمسه من الهجره، ولكن كون العديد من الروايات لهذه القصة وقصص أخرى تشبهها عن ذات الخليفة غير مؤكدة كونها موضوعة أو مُبالغا في روايتها للتركيز على عشق الخليفة المزعوم للجاريات، وقد ذكر بعض المؤرخين رفضهم لمثل هذه الروايات ومبالغاتها ويردونها إلى نقمة العباسيين المتمردين على الأمويين وخاصة في هذه الفترة من أواخر حكم الأمويين.
وأنها مدسوسة ومغرضة، وقد قيل عن يزيد بن عبد الملك أنه مات بسواد الأردن، ومرض بنوع من السل، كانت دولته أربعة أعوام وشهرا، وعهد بالخلافة إلى أخيه هشام بن عبد الملك، ثم من بعده لولده الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وقد أنجب يزيد أحد عشر ابنا، وقد مات في خلافته من الأعلام، وهم الضحاك بن مزاحم وعدي بن أرطاة وأبو المتوكل الناجي، وعطاء بن يسار ومجاهد ويحيى بن وثاب مقرئ الكوفة، وخالد بن معدان والشعبي عالم العراق، وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وأبو قلابة الجرمي وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري وآخرون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق