السبت، 25 أبريل 2020

أنا وميلانين| بقلم | سناء تيغار

لم أُعِر اهتماما لذاك المنشور الّذي يتصدّره اسم " ميلانين" ويطالعني كلما فتحت متصفّحي.
وفي كلّ مرّة أصادفُ هذا المنشورَ، أتجاوزه مهملةً إيّاه...
ميلانين؟!
ما أعرِفه عن ميلانين:
أنَّ الاختلافَ في لونِ بشرة الجسم بين البشر يرجِعُ إلى ما يُسمّى صَبغة الميلانين، وهي الصَّبغةُ المسؤولةُ عن إعطاء الجلد والشَّعر والعينين لونها.
دفعني الفضول لأرى ماهذا الميلانين الّذي يقصدونه؟
وبصدفةٍ جميلةٍ أتاني الكتابُ هديةً راقيةً نبيلة.
أمسك بالكتاب أتأمَّله.. ها..أنت ميلانين؟
اتأمّلُ الغلافَ بتصميمه البسيط وألوانه الهادئة الجميلة، رماديٌّ غامق ورماديٌّ فاتح، وميلانين السوداءُ تتوسَّطُ اللونين، وينبُتُ منها برعمان صغيران يبثّان الأمل.
أُحبُّ الإهداءات، أقرأ بعضاً من الكاتب فيها.
"ليون في 20 جانفي 2019..نهاراتٍ وليالٍ كنت أُغرِقُ نفسي في تفاصيل هذا النص" ص 5
توقّفتْ.
( قلت لنفسي) لا لا.. لن أبدأ بقراءتِه الآن، سيكون موعدُنا في أجمل الأوقات وأَحَبِّها إلى قلبي، أغلقتُه برفقٍ وعناية واهتمامٍ يليق بضيفٍ عزيزٍ يحملُ رائحةَ عزيزةٍ غاليةٍ من جنوبيّ المتوسط.
وكان الصّباح وأنشودة اللافندر.
جِلستي الشِّتائيّة، الكنبةُ تخالفُ القوانين وتديرُ ظهرَها لرفيقاتِها، وتقترب من الواجهة الزّجاجيةِ لصالةِ الضيوفِ ويفصلُ بينها وبينَ الزُّجاجِ طاولةٌ خشبيٌّة صغيرةٌ مرتفعةٌ قليلا، بنيّةَ الّلونِ ، تحمل ماأهوى من رُفَقَاءِ روح...
الجِلسةُ مواجهةٌ تماما للبحر، بينها وبين البحر تقعِدُ "نبعة علاء" في أرضٍ زراعيِّةٍ ملاصقةٍ للسّور المجاور للشَّركة..نبعةٌ حزينةٌ دائما، ماؤها يتدفق غزيراً سلسبيلاً عذبا، ُتختلطُ قطراتُه بدموعِ النَّبعةِ الباكيّة الَّتي تَئِنُّ دوما، لِمَ لا يشرب ماءَها العطاشُ، لِمَ لاتُسقى بها الأشجار والزرع لم ولم ولم؟ فماؤُها يُهدَر إلى البحر، فيتلقَّفه من تحتِ سورٍ يفصِلُ بينَهُ وبينَ النَّبعةِ، يسألهُ البحرُ ساخراً فارداً شواطِئَهُ واتّساعهُ ومداه، من سيغلب، ملوحتي أم عذوبتك؟ يردُّ ماءُ النَّبعة مغرورقَ العينين: أتيتُك بساقيَّةٍ رقيقةٍ نحيلة، استرقتْ طريقاً لها من تحت سورٍ لايشعرُ بها أحدٌ، أتيتُكَ منتحرا.
وتختلطُ عذوبتُه بملوحةِ البحرِ؛ فيتلاشى وتضيع هويته.
"أنيسة عزوز..."
سطرين، ثلاثة، أربعة...انتهتِ الصَّفحةُ الأولى.
"يسكنني هاجس ضجِر وأنا أغادر مطار باريس_ شارل ديغول.
أقتلعني من حرارة تونس لأنغرس بعضَ وقتٍ في برد فرنسا وشوارعها المصقولة بفعل المطر"ص (9)
أشرب نبيذ الكلمات معتَّقاً وتنتعشُ شراييني برُضابِ النَّغماتِ والموسيقى، كفراشةٍ سكرى أتنقَّل بين السّطور والصَّفحات.
أتوقف. آخُذُ نفساً عميقاً، أغلقُ الكتاب، أشرُدُ مع نبعةِ علاء وأشجارِ الكاليتوس...
المشهدُ جميلٌ أمامي، وكأنّها الجنَّةُ وكأنَّني أقرأ ديوان شعرٍ وليست رواية!
عنوانٌ بارزٌ خُطَّ بحبرٍ أسود.
"اليوم الأوَّلُ لي في باريس"
"أجلس على حافة المكتب غيرِ بعيد، يثرثر الهاتف بعدُ، تتدلّى ساقي كرقَّاص السّاعة، أفكّر في التَّخطيط لمقتل بطل الرّواية كما أعلنته في احد منشوراتي الفيسبوكية. احتجَّ يومَها أحدُ القرّاءِ قائلا:
"لاتقتلي أبطال رواياتك" ص ( 20)
تسللتُ داخلَ المشهد وانغمستُ بتفاصيله..
"يشحنني التفاعل بطاقة توتر عالية تشبه رعشة عشاق في ليلة مقمرة على رمال شاطئ مهجورلم يدنسه خطو قبلنا" ص (24 )
فتحية؛ سأخبرك بسرٍّ لا يعلمه أحد، اقتربي أوشوشكِ وأخبرك مَنْ هم أولئكَ العشّاق الّذين تتحدَّثين عنهم؛ يوما ماً؛ أنا وحبيبي كنا على هذا الشاطئ.
أخرجُ من المشهد.
آه! السَّاعةُ الثانية ظهراً ؟! نسيت! يجب أن أُحضِّرَ طعام الغداء، وعدْتُ ابني بمحشي الكوسا والباذنجان! ماذا افعل؟ كيف سأترُكُ الكتابَ وتحضيرُها يحتاجُ وقتاً طويلاً وجُهداً؟ لله درك فتحية! أنا في ورطةٍ الآن وقد وعدت ابني بطعامٍ يحبّه!
بنظرةٍ طفوليِّةٍ مستجديةً أناديه:
-ماما..( حبيبي في مشكلة بدِّل أكلة اليوم اللي وعدتك فيها لأرز وسلطة؟ عيوني انت.. مضطرة جدا للوقت)
ناظراً إلى الكتابِ الّذي أحضنُهُ تحتَ ذراعي مبتسماً بخبثٍ: ( أها...متل مابدك سناء، المهم ماتطعميني أرز محروق. ضحكتُ بفرحٍ، وبوقتٍ قياسيّ، أنهيتُ تحضيرَ الوجبةِ البسيطة.
الحمد لله لم يحترقِ الأرز، وأعودُ ملهوفةً إلى خُلوتي الممتعةِ والنَّبعة، وبرج الصَّبي، والأشجار، واللون الأخضر، وزرقةَ البحرِ وقصيدتي رواية ميلانين.
عنوانٌ بخطٍّ عريضٍ وحبرٍ أسود
" اليوم الثّالث في باريس"
"زرت واحدا من اجنحة متحف الّلوفر أتوه بين ماض وحاضر.
للمكان جبروت وسطوة وللذاكرة ثقل وثغرات. وحدها الصّور الّتي يلتقطها السّيّاح توقِفُ مدّ الزَّمن. أغادره مع المغادرين، أنزل إلى نفق المحطة، أنتحي مقعدا بانتظار رقية،" ص ( 35)
أنيسة؛ تركتُ مقعدي في صالة بيتي، وجئتُ أنتظرُ معكِ رقيَّة، أفسحي لي مكاناً بجانبك.
أرى رقيّةَ تتسحّبُ من بين المسافرين أتتبَّعها معك، ألا تشعرين بوجودي أنيسة؟ انا القارئة العاشقة؟
أقرأ وأقرأ أشاركُ في بطولة المشهد، أنهيه، أعودُ ثانيةً لقراءته شعرا ينسابُ في عروقي...
بصوتٍ مرتفع أهتف:
- الله! يافتحية دبش، الله! هذا هو الأدب، هذا هو الإبداع!
دكتور قائد غيلان: أتسمعني؟ هتفت بها جهراو ليس سرا.
يأتي ابني ضاحكاً:
-تتحديثن مع نفسك ماما؟
- تعلم حبيبي؛ أقرا كتابا تتغذى روحي بموسيقاه وشاعريته.
يبتسم سعيداً لسعادتي ويتركني.
أكمل..
" بدأت مسودة رقيّة ولكني لست راضية عن الاستهلال!
هناك شيء ينفلت مني، أركض خلفه فيختفي ويتوارى، لم تسعفني التّنظيراتُ ولا الرّوايات الّتي قرأتها في تمثُّلِ استهلالٍ يروق لي.
للمرة الألف أستحضر استهلالات موسم الهجرة إلى الشّمال، الغريب، المزحة، الياطر، شرق المتوسط وغيرها من الروياات الحبيبة إلى ذائقتي، ولكنني أعود دائما خالية الوفاض. لاتوجد نظرية خالصة ولا استهلال خالص.كل رواية تستهل نفسها بنفسهاوكانّها تتحدّى الكاتبَ نفسه وهو خالقها.استعدت بذلك ثقتي بأنّ الكتابةَ حريّة وحريق، وأنّه من حسن حظّ الإبداع أن يكون أسبق على النّقد مما يترك حيّزا للحرف حتّى يتبرعمَ في تربةٍ ثملةٍ بخمر الجنون." ص (48)
أكمل منغمسة بكل مشاعري فقد تسللتُ داخلَ الصَّفحات، واختبأتُ بين السطور.
"بيب بيييييب ...ب...بوم..
فرامل تحكّ الإسفلت تشعله نارا يدوّي منبّه سيّارة، فيشطر الصّمت نصفين. صوت ارتطام، وجسمٌ لاشكل له يُرفع عاليا ثمّ يسقط مرة أخرى...
من أين ظهرت هذه السّيّارة الملعونة، كيف لم يتحكّم بعجلاته والمقود عند الإشارة الضوئية؟
كيف تسلّل إلى المشهد هكذا دون أن أهيَّأ له ولا أن أحسب له حسابا، هل طفت هواجسي على الورق وأرتسم لاوعيي المذعور الخائف أبدا من حوادث الطّرقات منذ أن فتفت جرّار الحظيرة أبي ونثره أشلاء.
إنها السيدة رقية!
السيدة رقية؟" ص (53)
آه فتحية! توقّف قلبي خوفاً وهلعاً وأنا مختبئةٌ بين السّطور، لِمَ قتلْتِ رقيّة المسكينة؟ لِمَ؟
تركتُ الكتابَ، وتملَّكني الحزن، رقيّة الفايد، أيتّها المسكينة!
أغلق الكتاب، أتنهّدُ متعبةً، أحاولُ الخروجَ من حالتي، تلبستني ميلانين.
خرجتُ إلى الشّرفة وكعادتي نظرتي الأولى أرسلها إلى النَّبعة، وشردتُ في الأفقِ البعيدِ علَّني أتخلَّصُ من حالة الحزن على مصير رقيّة الفايد.
حاولت أن أقومَ ببعضِ أعمالِ البيت، لكن، عجزت. كلما حاولت الابتعاد عن الرّوايةِ؛ همست لي نغماتُ الحروف: تعالي أكملي يليق بك ما ستقرأين بعد هذا.
"اليوم الرّابع في باريس"
" السّاعة السّابعة والنّصف مساء، يرنّ جرس الباب الرّئيس للعمارة، أنظر في (الفيزيوفون) والوجه المبتسم: هي لورانس." ص 59
"في الحقيقة لم يكن مجيئها مزعجا لي، ولم أكن أجد فيه إلّا حركةً جميلةً تخرجني من روايتي وتعيدُني إلى ملّفّي الّذي صار يخنقني.
الحديث ممتع مع لورانس، خفيفة ظلّ، تنسُج الحكايةَ تلو الحكاية وتضحك كطفلة..." ص(60)
لالا... ( قلت لنفسي وأجيب الحروف التي نادتني) سأنجز واجباتي المنزلية أولا، ألا ترين غرفَ النّوم مبعثرةً غيرَ مرتَّبةٍ؟ والمطبخُ ممتلئٌ بالأواني المتسخة بعد الفطور والغداء؟
أمسك بغطاء ّأحاول ترتيبه، شيءٌ ما يشدّني خارجاً، صوتٌ غريبٌ يناديني همساً: تعالي، تعالي وأكملي، اسمعي قصة لورانس.
(اي خلص ولوووووو قبل مانام برتب وبجلي) ( لنفسي أقول)
أستطيع أنْ أنجزَ ما تراكمَ عليّ من أعمالٍ في البيت قبل النّوم، هاهي لورانس صديقة أنيسة آتيةٌ لزيارتها سأرجع لأختبئ بين الصًفحاتِ؛ لأسمعَ حكايتها.
"حدثيني عن الوغد يالورانس
لاأعرف مدى استعدادها لفتح مغاليق أشجانها التي تثير جدا فضولي، تجيبني كما لو أنها تنتظر السّؤال لتطلعَني على قصَّتها الجديدة.
كان سجينا!
استرختْ على الأريكة، قالت وهي تغرق أفكاري في زرقة عينيها: فوجئتِ!
لم أجد بداً من الإجابة كذبا أن لا!" ص (62)
صامتةً هادئةً أختبئ في ذلك المستطيل الغامقِ أسفلِ الصّفحةِ، الّتي وضعتْه دارُ النّشر وكتبتْ بدايتَه ميلانين وفي نهايته فتحية دبش..تعبت من الوقوف والمراقبة والتّلصّص، اتَّكأتُ على كلمة ميلانين وأصخت سمعي لحديث لورانس وأنيسة، ضحكتْ الاثنتان وضحكتُ معهما خفيةً على تبرير حبيب لورانس سرقتَه للعجائز فقط.
وابتسمتُ بحبٍّ عندما سمعتُ إجابةَ لورانس لأنيسة:
"نعم أحبه.
وهل يُمنع المساجينُ من الحب؟" ص 64
ياااااه كدت أشهق وأصدر صوتا عندما قالت لورانس:"ولدت في السّجن"
ولو سمعتني أنيسة ستخرجني من مخبئي السري وتطردُني خارج الكتاب.
وضعتُ يدي على فمي وأكملتُ التّلصّص والاستماعَ حتّى النّهاية، عندما قالت لورانس منهيةً زيارتها:
"لست ثمرة الخطيئة، بل ثمرة الحب! لاحكم ولاسجن ولاموت يمكنه ان يمحو ذلك من ذاكرة أمي، كلّما حدَّثتني عن أبي؛ سكنت الغيمة وأمطرت السعادة من عينيها الجميلتين، أيُّ سجن وأيُّ خطيئة يمكنها ان تهزم الحب أو أن تنزع ثوب الفضيلة عنهما وهما يمنحاني الحياة، فولادتي في السجن ماكانت قرارا وإنّما عرَض لاينزع عنهما جنون العشق والهيام؟"ص (72)
أشعرُ بالتّعب، أخرج خِلسةً من الكتاب، وأحضِّر فنجانَ قهوةٍ منعش مع بسكويت التَّمر الَّلذيذ.
أضعها على طاولتي الصَّغيرةِ، وأخرج للشّرفة أستنشقُ هواء منعشا..
ستبردُ القهوةَ، وأنا أحبُّها ساخنة ( قلت لنفسي)
" كان المسير مرهقا والثّنايا بها انعطافات حادة، لا ظلال لشجر الكاليتوس التي كنت أحتمي بها من الهاجرة حين كنت طفلة تؤوب إلى القيروان صيفا وإلى باريس حين الخريف. كل شيء لبسه الجفاف والموت. لاشيء بقي غير المسافات ال بلا نهاية. لا شيء ينتهي البّتة، حتى الحكايات المتناسلة بعضها من بعض تئدواحدة وتلد اخرى تطمس النهايات معالم لترسم اخرى. ونحن نركض في تيهها اللامعقول. بدايات خبرْتُها وخبرَتْني، منذ صرنا نحمل في حقائبنا الأرضَ والناسَ والروائحَ والحكاياتِ والحبَّ" ص(87)
هل تكتب رواية كاملة بلغة شعرية؟!
ماقرأتُه من البداية حتّى الآن هو قصيدةٌ يغنّيها الصّباحُ لحظةَ عشقٍ مع الشّمسِ حينَ تفيقُ، وتقومُ من خدرها معلنةً ولادة الحياة من جديد.
"كنت حين أراه قبالتي أغمض سريعا عين العقل التي تراه معوجا،وأفتح عين القلب فيستقيم" ص (138)
تذكَّرتُ يارقيّة قولَ الإمام الشّافعي:
وعينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ.....وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا.
"لم يشيعني أحد حين زفني قلبي إليك، وحده كان الرّاقص الباكي، وحده كان الشَّاهد والشَّهيد، وروحي المعلقة في مشانقك ترقص كلما علت أنفاسك أو هبطت...
رأيتك قبل أن أراك، وأحببتك قبل أن أحبك...لحظة غفلة وحيدة وتنقلب الموازين، تعلو أرض وتهوي سماء، ينفلت حبلك مني، تقطع النساءُ وباريسُ الغوايةُ مشيمتَك في لحظةِ غيبوبة، لايهدأ لك بال، ولايهمد جسدُك، ولكنّ نبضك كان ميتا ككل الأوطان التي لعنتها الآلهة واستقرت بأرواحها دودة قز تغزل الحرير مشانق للغرباء مثلي.
الموتى وحدهم يدركون ان حملي كاذب، وأنني خلقتك لاكتبك، وأنك سرابي الجميل الذي به اهتدي إلى الضياع المقدس..." ص (142)
أتثاءب، أشعر بالتّعب، أترك مقعدي وأمشي في الصالون وأنا أمسك كتابي وأقرأ بصوتٍ عالٍ بإلقاءٍ شعريٍّ والفرح يشعُّ من عينيَّ والسّعادة تغمرني.
ابني ضاحكا:
- ماما ،ههههههه، تُحَضِّرِين للبكالوريا أنت؟
أشرت له بيدي أن اتركني ولم أردّ عليه.
أقرأ وأقرأ وأنتشي طربا وأسكر كعربيدٍ أثمَلَهُ كأسُهُ العشرون.
فكرة؛ لم لا؟
فكرةٌ ليست مجنونة، سأنفِّذها، أليس صوتي أنثويا ناعما رخيما؟
ضحكتُ وبفرح طفوليّ هيَّأت مسَّجِّلَ الصَّوتِ في جوِّالي، وبدأت أسجِّلُ المقطعَ تِلوَ المقطع من ميلانين، أقلِّدُ مرّةً محمود درويش، ومرّةً نزار قبّاني ومرّة علاء نعيم الغول.
حلَّ المساءُ وأزاحتِ العتمةُ كلَّ ضياء، لم أعد أرى النبعةَ ولا البحرَ ولا برج الصبي..ظلامٌ حالكٌ فقط وبعضٌ من بقايا شتاءٍ يلملم أشياءَه تاركاً للرَّبيع كلَّ الأمكنةِ يرسُمها لوحاتٍ مزركشةً تختالُ بألوانها الجميلة.
أشعرُ بالإرهاق، استلقيت على الأريكة وأغمضتُ عينيَّ وغفوت.
وكأنَّني صرتُ في عالم آخر، لا أعلم كم مضى عليَّ من الوقت نائمة!
يدٌ تهزُّني بقوِّةٍ، وصوتٌ أعرفه! أنا أنيسة عزوز. قومي.. هيَّا، قولي من أنت؟ ماذا تفعلين هنا؟ لم تتلصّصين علينا من بداية الرّوايةِ وتسترقينَ السَّمعَ على كل حكاياتنا؟ هل أنت مدسوسة بيننا من الشَّرطة؟
خَجِلةً وبصوت مرتبكٍ متلعثم، انتظري! لست سارقة ولا جاسوسة! كنتُ أعيش معكم الحبَّ والحزنَ والفرح، كنت أغنيكم على مسجّلي بصوتي النَّاعم.
مرةً أخرى تصرخ في وجهي تسألني:
-قولي من أنت؟
أصحو مفزوعة، أنهض بسرعة وأقف في وسط الصالون وبصوتٍ عالٍ أجيبها:
أنا؛ سناء تيغار من سوريا صديقة الكاتبة فتحية دبش.
ويأتي ابني مسرعا:
-ماما ماما مابك، تحلمين؟
أنظر إليه نظراتٍ تائهةً ضائعة وأقول بصوت عالٍ:
أنا فتحية تيغار من سوريا، صديقة ميلانين سناء دبش من تونس.
أصحو بشكل جيد على صوت ضحكات ابني مقهقها قائلا:
-جُنَّت أمي، وا أسفاه!
📷



***********************


***********************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة