إعداد / محمـــد الدكــــرورى
ونكمل الحديث عن يزيد الثالث بن الوليد، ووقفنا مع نصر بن سيار، وأما نصر بن سيار نائب خراسان فإنه امتنع من السمع والطاعة لمنصور بن جمهور، وأبى أن ينقاد لأوامره. وقد كان نصر هذا جهز هدايا كبيرة للوليد بن يزيد فاستمرت له، ونصر بن سيار بن رافع بن حرِّي بن ربيعة الكناني، وهو آخر ولاة الأمويين على خراسان، ولاّه هشام بن عبدالملك، وكان نصر بن سيار، هو شيخ مضر بإقليم خراسان، وقد عُرف بالدهاء والشجاعة، وقد ولي بلخ، ثم خراسان سنة مائه وعشرين من الهجره، بعد وفاة واليها أسد بن الفرات القسري، وقد ولاه هشام بن عبد الملك، وقد غزا بلاد ما وراء النهر، ففتح حصونًا كثيرة، وأقام بمرو، واستفحل أمر الدعوة العباسية في عهده بخراسان.
فكتب عدة رسائل إلى السلطات الأموية بالشام يحذرهم وينذرهم من خطورة الوضع في أقاليمه، فلم يعيروه التفاتًا، فصبر على تدبير الأمور، ولكن قصرت إمكاناته عن الوقوف في وجه الدعوة العباسية، وأخيرا غلبه أبو مسلم الخراساني على خراسان، واضطره إلى الخروج من مرو سنة مائه وثلاثين من الهجره، وتوجه إلى نيسابور، فأرسل أبو مسلم في أثره قحطبة بن شبيب، فانتقل ابن سيار إلى قومس، وكتب إلى ابن هبيرة، وهو بواسط، يطلب منه المدد، وكتب إلى الخليفة الأموي مروان بن محمد بالشام، وأخذ يتنقل من بلد إلى بلد ينتظر النجدة إلى أن مرض في مفازة بين الري وهمزان، ومات بساوة، وقد استشعر بوادر الانفجار ونذر الخطر وكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة.
وهو والي العراق في تلك الأيام، يعلمه في أبيات من نظمه ما شاع بخراسان من الاضطراب في العامين الماضيين، ويحذره من خطورة الوضع، ويصارحه أنه إذا استمر في التدهور ولم يعالج معالجة حازمة، فأنه سيؤدي لا محالة إلى عاقبة وخيمة وكارثة عظيمة، وفي هذه السنة كتب مروان الملقب، بالحمار، كتاباً إلى عمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد، يحثه على القيام بطلب دم أخيه الوليد، وكان مروان يومئذ أميراً على أذربيجان وأرمينية، ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له: إن أهل العراق يحبون أباك فقد وليتكها، وكان ذلك في شوال، وكتب له إلى أمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم به خشية أن يمتنع منصور بن جمهور.
من تسليم البلاد إليه، فسلم إليه وأطاع وسلم، وكتب الخليفة إلى نصر بن سيار باستمراره بولاية خراسان مستقلاً بها، فخرج عليه رجل يقال له الكرماني، لأنه ولد بكرمان، وهو: أبو علي جديع بن علي بن شبيب المغني، واتبعه خلق كثير بحيث إنه كان يشهد الجمعة في نحو من ألف وخمسمائة، وكان يسلم على نصر بن سيار ولا يجلس عنده، فتحير نصر بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيهم بعد جهد على سجنه، فسجن قريباً من شهر، ثم أطلقه فاجتمع إليه ناس كثير، وجم غفير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصر من قاتلهم فقتلهم وقهرهم وكسرهم واستخف جماعات من أهل خراسان بنصر بن سيار وتلاشوا أمره وحرمته، وألحوا عليه في أعطياتهم وأسمعوه غليظ ما يكره وهو على المنبر.
بسفارة سلم بن أحوز أدى إليه ذلك، وخرجت الباعة من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفض كثير من الناس عنه، فقال لهم نصر فيما قال: والله لقد نشرتكم وطويتكم وطويتكم ونشرتكم فما عندي عشرة منكم على دين، فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين الرجل منكم أن ينخلع من أهله وماله وولده، ولم يكن رآها، وفي هذه السنة: أخذ الخليفة البيعة من الأمراء وغيرهم بولاية العهد من بعده لأخيه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم من بعد إبراهيم لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب مرضه الذي مات فيه، وكان ذلك في شهر ذي الحجة منها، وقد حرضه على ذلك جماعة من الأمراء والأكابر والوزراء، وفيها عزل يزيد عن إمرة الحجاز يوسف بن محمد الثقفي.
وقد ولى عليها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فقدمها في أواخر ذي القعدة منها، وفيها أظهر مروان الحمار الخلاف ليزيد بن الوليد، وخرج من بلاد أرمينية يظهر أنه يطلب بدم الوليد بن يزيد، فلما وصل إلى حران أظهر الموافقة، وبايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وفيها أرسل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبا هاشم بكر بن ماهان إلى أرض خراسان، فاجتمع بجماعة من أهل خراسان بمرو، فقرأ عليهم كتاب إبراهيم بن محمد الإمام إليه وإليهم، ووصيته، فتلقوا ذلك بالقبول، وأرسلوا معه ما كان عندهم من النفقات، وفي نهاية شهر ذي القعدة: توفى أمير المؤمنين يزيد الثالث بن الوليد، حيث تعتبر الأوضاع العامة للخلافة أثناء ولاية يزيد الثالث استمرارًا لفاتحة الاضطرابات.
والتي ابتدأت على إثر مقتل الوليد الثاني، والتي أدت إلى تصدع بني أمية، ومن ثَمَّ زوال دولتهم، وقد مرت أحداث عهده بمرحلتين متميزتين وقد تضمنت المرحلة الأولى أحداث ذيول مقتل الوليد الثاني، وما أثارته من ردود داخل البيت الأموي في حين تضمنت المرحلة الثانية صدًى لأحداث التغييرات في المناصب الإدارية وما كان لها من آثار سلبية على مسيرة الحكم من جهة، وانعكاسات سيئة على الأوضاع الداخلية من جهة أخرى، والواقع أن يزيد الثالث لم يكن الشخصية التي يجمتع حولها كافة أفراد البيت الأموي، ويبدو أن عدم وجود مثل هذه الشخصية، إضافةً إلى تفشي روح الفردية كانا من الأسباب البارزة في استمرار الصراع، فما أن اعتلى يزيد الثالث الخلافة حتى قامت المعارضة العنيفة.
في وجهه، وتزعمها أبناء عمومته، كما ثارت عليه الأقاليم الشامية، وكان أول إقليم هَبَّتْ منه الثورة هو حمص، فقد أخذ أهله يبكون على مقتل الوليد، ورفضوا البيعة ليزيد، وكاتبوا أهل الأجناد، ودعوهم للطلب بدم الوليد، وانضم إليهم يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية، وقرروا السير إلى دمشق، ولكن يزيد علم بخبرهم، فعاجلهم بجيشين على رأس أحدهما ابن عمه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، وعلى الآخر سليمان بن هشام بن عبد الملك، فاستطاعا هزيمة أهل حمص، وأخذا يزيد بن خالد وأبا محمد السفياني أسيرين إلى دمشق، فحبسهما يزيد، ثم ثار أهل فلسطين ورفضوا البيعة ليزيد بن الوليد، وبايعوا ليزيد بن سليمان بن عبد الملك ثم علم بأمرهم أهل الأردن، فثاروا هم أيضًا، وخلعوا طاعته.
ووَلَّوا عليهم محمد بن عبد الملك، واجتمعوا على قتال يزيد، فلما علم بأمرهم أرسل إليهم ابن عمه سليمان بن هشام بن عبد الملك في جيش عِدَّته حوالي أربعة وثمانين ألفًا من أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني، ودخلوا في طاعته، وقد تمكن سليمان بن هشام بن عبد الملك من هزيمة أهل الأردن، فبايعوا ليزيد ودخلوا في طاعته، فولى ضبعان بن روح على فلسطين، وأخاه إبراهيم بن الوليد على الأردن، وهكذا بدا ليزيد بن الوليد أنه كبح جماح الثائرين على دولته في مناطق الشام، بعد أن أطاح بابن عمه، وظن أن الأمور استقرت له، إلا أنه لم يستمتع بذلك طويلاً فلم تَدُم خلافته سوى ستة أشهر، حيث توفي في ذي الحجة، ليترك الشام وهي الحصن الحصين للدولة الأموية تشتعل نارًا.
كما ترك أبناء أسرته منقسمين على أنفسهم، منشغلين بصراعاتهم عن الأخطار المحدقة بهم، وبصفة خاصة الخطر العباسي، مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن حركته كلها كانت من العوامل التي مهدت لزوال الدولة الأموية، وقد ندّد الدين الحنيف بالعصبية الجاهلية المنتنة ونهى عنها، ولكنها عادت للظهور في عهد بني أمية، مما أجج الصراع بين القبائل العربية، التي تعد سنداً وعماداً الدولة، وكذلك الخلاف بين العرب والموالي، وهم المسلمون غير العرب أو الأعاجم، وإن تنازل الحسن بن علي بن أبى طالب، رضي الله عنهما لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، يعد بداية مرحلة جديدة ومفصل هام في التاريخ الإسلامي، إذ تحول نظام الحكم الذي اعتاده المسلمون في العهد الراشدي.
من نظام الشورى والخلافة إلى نظام ملكي وراثي وما يتبع عليه من أنواع الترف، وهذا يبدو جلياً في قصور الأمويين، ولكن هذا لا ينفي بقاء الدولة مسلمة كدين، وعرف، وقانون، لكن هذا التحول من الخلافة إلى التوريث في الحكم قسم المسلمين إلى مؤيد لهذا الشكل من الحكم ومن نقل عاصمة الحكم من الحجاز لبلاد الشام، ومعارض في الحجاز والعراق، وبقيت الدولة الأموية سنين طويله، وهكذا تعاقبت على حكم الأمة الإسلاميّة عبر التاريخ عدة دول، ومن بينها الدولة الأمويّة التي ذاع صيتها في الآفاق، إذ مثّلت ذروة اتساع الدولة الإسلامية، حين ضمت تحت رايتها وسلطانها كثيرا من الولايات والأمصار، وقد نُسبت تلك الدولة إلى حُكامها الذين يرجع نسبهم إلى أمية بن عبد شمس من قريش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق